ويظل هذا البعد الاجتماعي حاضرا في معظم مشاريع راكوفيتز، ففي مشروعه باراسايت " ParaSITE" الذي بدأه في عام 1997، يلعب في كتابة الكلمة التي تعني طفيلي ليحولها إلى مقطعين لتعني المكان المجاور أو الملتصق بمكان آخر.
ويستخدم
راكوفيتز مواد معاد تدويرها كالأكياس البلاستيكية لصنع تكوينات بلاستيكية يمكن نفخها عند وضعها على شبابيك المباني أو أي مصدر تهوية آخر لاستخدامها
كأماكن لسكن المشردين، مستفيدين من تدفئة البنايات التي توضع قربها.
وفي معرضه الأخير، يستخدم الأسلوب ذاته لنرى مجسما بلاستيكيا لمبنى مُجمع مشروع إسكان شعبي في سانت لويس بولاية ميسوري، صممه المعماري الشهير مينورو
ياماساكي عام 1956، (وهو مصمم مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك)،
لإسكان نحو 10 آلاف شخص، في ما يشبه اليوتوبيا الحداثوية يحرص فيها على خلق فضاءات مفتوحة ومساحات خضراء وسط المباني، بيد أن مشكلات في التنفيذ أدت
إلى حذف هذه المساحات، كما استحال المشروع لاحقا إلى مكان للعزل العرقي
والاجتماعي للسود والطبقات الفقيرة، وقد فجرت المباني لاحقا في عام 1970 واستخدم ركامها لخلق تلال عالية استخدمت كأماكن لفيلات راقية للأغنياء
فوقها.
وفي هذا العمل يرثي راكوفيتز هذا الحلم الأمريكي الذي نراه ينت
وفي مشروعه "الرجل الأبيض لا يحلم" عمل راكوفيتز مع السكان الأصليين
لأستراليا، وأعاد معهم بناء نموذج نصب الأممية الثالثة للفنان الروسي
فلاديمير تاتلين، والذي كان من المقرر أن ينصب وسط مدينة بطرسبورغ بارتفاع أعلى من برج إيفل لكنه لم ينفذ. وقد أعاد راكوفيتز بناء نموذج البرج من
أخشاب وأسلاك وأنابيب وآجر من مشروع آخر لمجمع لإسكان السكان الأصليين في
أستراليا في مدينة سيدني تُرك ليتدهور ثم هدم لاحقا.
وقد خصصت إحدى قاعات المعرض لوضع نموذج البرج مع عدد كبير من الشروحات والتخطيطات عن
أبعاد المشروع ومصادره. وقد استخدم البرج أيضا كبرج بث لمحطة إذاعية خاصة
بالسكان الأصليين.
فخ أمامنا في هذا الشكل البلاستيكي ثم ينهار من جديد خلال دقائق.
في مشروع جرئ آخر تحت عنوان "الافتراق" يخلق راكوفيتز مسارا متوازيا بين
ظهور جون لينون وفرقة البيتلز البريطانية وتفرق رموزها وانحلالها لاحقا وظهور جمال عبد الناصر وحلم الوحدة العربية وتطور الصراع العربي الإسرائيلي
في منطقة الشرق الأوسط.
وقد حرص على استخدام "كولاجات" من صور ومطبوعات واسطوانات صوتية ورموز وتذكارات وبطاقات تهنئة وتفاصيل أخرى من
مرحلة الستينيات تتعلق بتاريخ البيتلز أو مرحلة حكم عبد الناصر في مصر من
المنطقة العربية عموما.
وفي قلب المعرض يُعرض إلى جانب هذه الكولاجات فيلم فيديو لعرض تؤديه
فرقة غنائية فلسطينية تحمل اسم "صابرين" جعلها راكوفيتز تعيد، فوق سطح أحد
المباني في مدينة القدس، تقديم الحفل الغنائي الذي قدمته فرقة البيتلز فوق سطح أحد المباني في بريطانيا، فضلا عن مقاطع مصورة من جنازة عبد الناصر.
ويعمد
راكوفيتز إلى كتابة شروحات وتعليقات ومقارنات للتفاصيل والتواريخ بخط يده
إلى جانب الكولاجات الصورية التي وضعها، كما هي الحال في مقارنته بين وفاة
عبد الناصر ومقتل نجم البيتلز جون لينون في شهر ديسمبر بفارق عشر سنوات
بينهما. ويضع في أحد الكولاجات خبر مقتل لينون وبدء انتفاضة الحجارة الفلسطينية الأولى في التاريخ نفسه في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول.
ويمتلئ المعرض بالكثير من الصور والتذكارات من مسيرة فرقة البيتلز
أو من منطقة الشرق الأوسط في الستينيات أو ما يجمع بينهما على سبيل المثال:
مقترح تقديم البيتلز لحفلة في ليبيا أو قرب الأهرامات في مصر، أو يقدم
صورة لياسر عرفات على غلاف مجلة التايمز تشبه حركته فيها حركة نجم البيتلز جورج هاريسون على غلاف مجلة رولينغ ستون واضعا تحتهما تعليق متشابه "أبطال
العودة" بالعربية والإنجليزية.
كما يضع عددا من الاسطوانات التي سجلتها شركة كولومبيا لعبد الناصر أو بن غوريون مع اسطوانات البيتلز وتبدو متشابهة في أغلفتها، أو يعيد تصميم غلاف اسطوانة شهيرة للفرقة نفسها واضعا كولاج من صور القادة والزعماء العرب معهم.
تحت هذا العنوان يكرس راكوفيتز إحدى صالات المعرض لاستذكار مذبحة الأرمن
في عام 1915 مستعيدا زخارف نفذها حرفيون أرمنيون بأسلوب الآرت ديكو لتزيين
مباني في مدينة اسطنبول التركية. حيث يملأ القاعة بتخطيطات ونماذج جبسية لمثل هذه الزخارف، فضلا عن إعادة تشكيلها باستخدام عظام بشرية أو حيوانية.
وفي
قاعة ثانية يضع راكوفيتز مجموعة من الكتب المنحوتة من الحجر لكتب قد
احترقت مزاوجا بين الكتب اليهودية المقدسة التي أحرقها النازيون وتلك الكتب
التي احترقت في قصف عرضي لطائرات القوة الجوية الملكية البريطانية لمكتبة فريدريكيانوم في مدينة كاسل الألمانية عام 1941، وتفجير تمثالي بوذا
الضخمين في أفغانستان. وقد نحتت هذه الكتب بمساعدة نحاتين وحرفيين من
أفغانستان وإيطاليا، من أحجار نقلت من منطقة باميان، حيث فجر مسلحو طالبان
التمثالين الضخمين المنحوتين من القرن السادس لبوذا.
وحوط راكوفيتز هذه المنحوتات بخزانات ضمت عددا من الكتب المقدسة القديمة
أو لُقى أثرية أو أحجار وشظايا التقطت من موقع تفجير تمثالي بوذا أو حطام
برج التجارة في نيويورك وموقع انفجار المكتبة الألمانية أو موقع تجربة تفجير نووي في المكسيك.
ثنائية هدم وبناء يقدمها راكوفيتز في أعماله
وبأدوات مختلفة في كل مرة، ويقع في جوهرها نقده لحضارة الاستهلاك المفرط
الرأسمالية التي نعيشها، والتي يستخدم في كثير من الأحيان، ضمن مفارقة
ساخرة، منتجاتها بل ما تنتجه ثقافتها الشعبية من نتاج "كيتش" (مصطلح فني
ترجع أصوله إلى كلمة ألمانية استخدمت في القرن التاسع عشر لوصف الإنتاج
الفني الرخيص والأشياء التي لا قيمة لها، واتسع استخدامه لاحقا للتعبير عن مجمل نتاج ثقافة الاستهلاك) لإعادة بناء ما تهدم.